شهدت الليرة التركية والريال الإيراني في الأيام الماضية خسائر متتالية وسقوط حاد أمام الدولار الأمريكي في أحدث الأزمات الاقتصادية التي تصيب الاقتصاد في البلدين، وترافق ذلك مع غموض واسع ضرب مستقبل العملتين وضبابية في الأسباب التي أوصلت الأمور إلى هذا الحد.
وسجل الريال الإيراني تراجع كبير، حيث فقد ثلثي قيمته منذ بداية العام الحالي، في الوقت الذي تجاوزت خسائر الليرة التركية 80 بالمائة رغم تسجيل الاقتصاد في تركيا لنسب نمو كبيرة.
وبقي القاسم المشترك بين البلدين ارتفاع نسب التضخم، وإن كان الوضع في إيران كارثي مقارنة بالحالة التركية. حيث تحافظ العملة التركية على بعض القوة مدعومة من خصائص الاقتصاد المرن، فيما تعاني إيران من معوقات ومشاكل أكبر.
وسجلت أسعار صرف الليرة التركية 6.35 لكل دولار أمريكي بعد أن كانت 3.25 سابقًا، اما اليورو فقد وصل إلى 5.11 ليرة تركية، مع ازدياد الاقبال على شراء العملات الأجنبية والتحوط مما هو قادم.
امتلكت تركيا حكومة منتخبة وحياة ديمقراطية ساهمت في انتقال البلاد إلى مستويات متقدمة من التطور والنمو، أما إيران فما زالت ترزح تحت حكم النظام الشمولي الديني منذ نجاح الثورة التي أطاحت بحكم الشاه خلال سبعينيات القرن الماضي.
ومع اختلاف طبيعة النظام الحاكم في كلًا من تركيا وإيران، لكن الاقتصاد جمع بينهما فضلًا عن القرب الجغرافي. وتبقى المعاناة الاقتصادية طابع مميز -وإن بدرجات مختلفة -للدولتين.
ترتكز الأسباب في الطرف الإيراني على جملة من العوامل، الأول مرتبط بطبيعة النظام الحاكم ونوعية الاقتصاد من جهة، أما العامل الثاني فهو العلاقات السياسية الدولية المتوترة، ليشكل العامل الثالث العقوبات والحروب التجارية.
يمتلك النظام السياسي الحاكم في إيران ايدلوجيا دينية مختلفة تعادي بشكل مضمر المحيط العربي الأقرب لها، كما تدخل في منافسة على زعامة العالم الإسلامي مع دولة نفطية عربية قوية هي السعودية، وعلى الرغم من امتلاك إيران أيضا للموارد النفطية الكبيرة، إلا انها تعاني من الفقر والاعتماد على ثروة النفط في تطوير ترسانة عسكرية على حساب الانفاق العام، كما أن البلد لا تمتلك حلفاء أقوياء عالميًا، فبخلاف روسيا البلد القادم من جديد نحو الساحة العالمية، تجد عقود طويلة من عداء الولايات المتحدة الأمريكية حليف منافسها العربي.
هذا يدخلنا مباشرة إلى العامل الثاني، فسنوات العزلة والعداء الطويلة التي فرضها النظام الديني في البلاد، والذي يمتلك مرجعية وحيدة هي المرشد، تركت أثر كبير على بناء التحالفات الدولية، عوضته إيران بدعم وبناء مواضع نفوذ مذهبية في عمق العالم العربي. لتجد أحزاب دينية مدعومة بشكل كامل من إيران مثل حزب الله في لبنان، وجماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، والميليشيات الشيعية المقاتلة في العراق وسوريا.
لكن العامل الثالث والأهم، يتمثل في العقوبات الاقتصادية التي حرمت البلاد سنوات من التنمية، وساهمت في اضعاف البنية الاجتماعية العامة للدولة، ما دفع بظهور احتجاجات شعبية منذ 6 أشهر على تردي الأوضاع المعيشية، وتحولت لمظاهرات مناهضة للحكومة والمرشد تتدخل قوات الحرس الثوري الإيراني لقمعها.
انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي، يأتي في هذا السياق والذي لم ينتهي حتى تم فرض عقوبات اقتصادية هي الأقسى على البلد، كانت السبب في تراجع العملة 19 بالمائة خلال ساعات.
نفس هذه العقوبات الاقتصادية، فرضت على الاقتصاد التركي من قبل الحليف الأمريكي السابق. وعلى الرغم من متانة العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، إلا أن التوترات السياسية والتراشق الإعلامي بلغ حدًا غير مسبوق في تاريخ البلدين.
جاء ذلك بعد أن اتهمت تركيا قس امريكي بالتجسس والإرهاب، واودعته السجن على خلفية مشاركته في الانقلاب الفاشل عام 2016 في تركيا، الأمر الذي ترفض أمريكا تصديقه وتطالب بالإفراج عنه، وتستعمل العقوبات لأول مرة في سبيل تحقيق ارادتها.
يقول المحللون الاقتصاديون أن هنالك أسباب خرى لتراجع الليرة التركية، تتمثل بالسياسات الاقتصادية الخاطئة التي انتهجتها تركيا خلال السنوات الماضية، فازداد الاستعانة بالقروض الخارجية وضغطت أسعار النفط المرتفعة على الاقتصاد. لكنهم لا يغفلون في نفس الوقت دور العامل السياسي المتمثل بالأزمة التركية – الأمريكية.
الثابت الوحيد في الازمة المالية الجديدة، انها لا تعني انهيار أسعار صرف الليرة التركية، بل تقلبها بشكل كبير وهو الشيء الذي ميز جميع الازمات المالية السابقة التي عاشها الاقتصاد، والتي كان غالبها ينتهي لصالح الليرة ولا يستمر لفترة زمنية طويلة.
ساهمت العقوبات الاقتصادية الأمريكية في تدمير بلدان وتغير حكومات، حيث تعتبر سلاح قوي الفاعلية منخفض التكاليف، وبحسب المتابعات لآخر 15عامًا، نجد ازدياد برامج العقوبات من 17 وحتى 35 خلال تلك الفترة.
وعلى اختلاف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بقي استعمال هذا الأسلوب أداة في يد الجمهوريين والديمقراطيين لفرض سياسات خاصة على دول عدوة أو صديقة.
لا ننسى الحصار والعقوبات الأمريكية على العراق، والذي انتهى باجتياح البلاد والقضاء على الرئيس العراقي صدام حسين، وكذلك الامر في الارجنتين وسوريا وروسيا والصين وغيرها من الدول الحليفة كـ تركيا.
يذكر التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية قد استطاعت بسبب الظروف الخاصة للحرب العالمية الأولى والثانية، من الاستحواذ على أكبر نسبة من ذهب العالم والذي دفع على شكل أموال مقابل السلاح والغذاء لدول الحلفاء. في تلك الأوقات كان الجنيه الإسترليني هو العملة العالمية.
لكن سرعان ما تم الاعتماد على الدولار الأمريكي، على اعتبار انه مقوم بالذهب ويمكن صرفه مقابل المعدن الأصفر، شكلت هذه الفكرة خطرًا على التفوق الأمريكي. حتى جاء الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” وألغى إمكانية صرف الدولار مقابل الذهب، سمي هذا القرار بصدمة نيكسون، فبقي العالم يعتمد على الدولار الأمريكي كعملة رئيسية ما زاد سطوة وقوة وهيمنة العملة الخضراء.
يبقى أن نشير إلى العقوبات الاقتصادية التي فرضها الرئيس الحالي دونالد ترامب على مجموعة من دول العالم، هي تطبيق مباشر ومستمر للقوة الناعمة الأمريكية المتمثلة بالدولار، والتي ساهمت في كثير من الأحيان في فرض رؤية وسياسات الولايات المتحدة على دول العالم.